العبرانيون السود يثبتون حقهم في يهودية أصيلة

طائفة منبوذة وغامضة حتى للمجتمع الإسرائيلي



القدس: أسامة العيسة

سلطت مشاركة الفنان الإسرائيلي ايدي باتلر، في مسابقة الغناء الأوروبي «اليوروفيزْيون» التي نظمت في اثينا، مايو (أيار) الفائت، الأضواء على طائفة مهمشة في إسرائيل، يطلق عليها اسم العبرانيين السود أو الأفارقة. وهي طائفة تلفها الأسرار ولا تعترف الدولة بيهودية أفرادها، بل مارست بحقهم قمعا منظما باعتراف وزارة الخارجية الإسرائيلية في ترويجها لمشاركة باتلر في المسابقة الأوروبية.

مثّل المغني ايدي باتلر، 34 عاما، إسرائيل في مسابقة الغناء الأوروبي «يوروفيزْيون» مؤخراً، معتبراً مشاركته فخرا لطائفته التي قدمت نفسها للمجتمع الإسرائيلي عبر الأغاني والخصوصية الثقافية، وتعبيرا عن المكانة الغائبة التي يفترض أن يتبوأها أفرادها في الدولة العبرية.

وأبناء طائفة العبرانيين السود، يتركزون في مدينة شيكاغو الأميركية، وفي بلدة ديمونة، المشهورة بالمفاعل النووي الإسرائيلي الموجود فيها، ولديهم اعتقاد راسخ بأنهم من سلالة أحد أسباط اليهود الاثني عشر، التي تاهت في غرب إفريقيا بعد سقوط مملكة إسرائيل القديمة، وفقا للرواية اليهودية.

ويعيش أفراد الطائفة التي تطلق على نفسها رسميا اسم «الإسرائيليون العبرانيون الأفارقة المقدسيون» ـ نسبة للقدس ـ في إسرائيل، بتصاريح إقامة، ولا يتمتعون بالمواطنة، ولا يحق لهم الانتخاب للكنيست، في وضع يشبه ما يسمى (البدون) في بعض الدول العربية. حياتهم بدائية شبه اشتراكية ولديهم عادات تقوم على التعددية الجنسية بين الرجال والنساء وفقا لتعليمات من قيادة الطائفة الدينية، التي تقرر لأفرادها متى يتزوجون ومن، والى أي مدى يدوم الاتصال الجنسي بين الزوجين، في حين يفضل أفراد الطائفة الإشارة إلى هذا النوع من العلاقات الجنسية بأنه نوع من تعدد الزوجات. وهذا يفسر وجود عائلات كبيرة يصل عددها أحياناً إلى عشرين فرداً.

وتعتبر هذه الطائفة متشددة في تطبيق ما تؤمن به، وهم يرون في أنفسهم أحفاد إسرائيل القديمة التي يؤكدون أنها كانت دولة للسود، وأن أنبياء اليهود كانوا من السود أيضا. وللنساء دور محوري داخل الطائفة، التي لا يتناول أفرادها اللحوم ومشتقات الألبان، ويرتدون ملابس من منسوجات طبيعية، ويحرمون التدخين وشرب الخمور وتعاطي المخدرات، وتتشدد في تطبيق تعاليمها على أفرادها الذين يتناولون الطعام في مطاعم جماعية بشكل مشترك، ولديهم معهد يتعلم فيه أطفالهم الغناء التقليدي والرقص الموروث للطائفة، الذي تجهد كي يكون حلقة الوصل، لتعريف باقي أفراد المجتمع بها وبثقافتها وتقاليدها ومبادئها.

ويفخر أفراد هذه الطائفة المنبوذة وغير المفهومة من قبل الإسرائيليين، بالمغني باتلر، الذي مثل إسرائيل أيضا في مسابقة «يوروفيزيون» الأوروبية، عام 1999 في إطار فرقة «عيدين» الموسيقية والتي حصلت على المرتبة الخامسة آنذاك. وعول باتلر على مشاركته الفردية هذا العام، معتبرا أنها شكلت فرصة كان ينتظرها قائلا «هذه المرة أديت الأغنية وحدي ومنحت الفرصة لأقف على المسرح وكل الإمكانيات سخرت لي لأقدم افضل ما عندي».

وقدم باتلر أغنية بوب بعنوان «معًا نصبح واحدًا» مزج فيها موسيقى البلوز والسول، وأدى جزءًا منها بالعبرية وآخر بالإنجليزية، نظراً لكونها لغة عالمية. وعبر باتلر عن فخره بتراث طائفته الموسيقي، الذي يشكل مصدر الهام له في أغانيه، قائلا إن أغنيته حظيت باهتمام «لأن أوروبا لا تملك مثل هذه الأغاني».

وتعرف 100 مليون شخص في العالم، من خلال مشاركة باتلر في المسابقة الأوروبية على جذوره، أو تساءلوا عنها، عندما رأوا شابا اسود يختلف شكله عن باقي الإسرائيليين، يقدم أغنية مختلفة الطابع.

ولكن الأهم بالنسبة لباتلر، هو إثارة اهتمام الإسرائيليين به وبطائفته، وكان باتلر ولد في صحراء النقب لوالدين هاجرا إلى إسرائيل قبل 37 عاما من شيكاغو في أميركا، وعاش ضمن أجواء أبناء طائفته، وعانى مثلهم التهميش. ومنذ سنوات طويلة ينظم أبناء الطائفة نشاطات مطالبين بحقوقهم، معتبرين أنفسهم اليهود الحقيقيين، والأحفاد الأصليين للعبرانيين القدامى، متهمين اليهود البيض المسيطرين على الدولة العبرية الآن باغتصاب حقوقهم، إلى درجة انهم يؤمنون بأن شق قناة السويس، الهدف منه رغبة «الرجل الأبيض» في فصل ما يطلقون عليها ارض إسرائيل عن أفريقيا.

ووجد أبناء هذه الطائفة، فرصة لإظهار أنفسهم في الغناء، وتقديم موسيقاهم من خلال أولادهم الذين لا يكفون عن الغناء، وبدأ باتلر الغناء وعمره لم يتجاوز الثامنة، في إطار فرقة جمعته مع أشقائه جابت إسرائيل. وحسب مصادر متابعة للشؤون الاثنية في إسرائيل، فإن باتلر وأشقاءه غنوا أمام كل من كان مستعدًا لسماع أغنياتهم، التي كشفت للمجتمع الإسرائيلي جوانب غير معروفة عن طائفتهم التي لا تؤمن بتقاليد الحاخامية اليهودية في إسرائيل.

وكل من كان يشاهد باتلر وأشقاءه، كان لا بد أن يتساءل عن هؤلاء السود الذين يقدمون أنفسهم كيهود وترفض المؤسسة الدينية الاعتراف بهم. ورغم موقف الحكومات الإسرائيلية السلبي منهم، إلا أن لديهم إصراراً غريباً على التمسك بيهوديتهم وبإقامتهم في إسرائيل وتشجيع أبنائهم في الانخراط في الجيش الإسرائيلي كمتطوعين.

وأدى تكريس باتلر كمغن، إلى انتقاله إلى تل أبيب عاصمة الفن والثقافة في إسرائيل وعمره 19 عاما، تاركا أبناء طائفته في صحراء النقب، حاملا معه قضاياهم وبحثهم المحموم عن هويتهم المفقودة ومجدهم الضائع باعتبارهم «اليهود الحقيقيين». وعرف باتلر طريقه إلى مسارح تل أبيب، ثم أسس مع شقيقه غبرئيل وآخرين فرقة «عيدين» الموسيقية، التي انفرط عقدها عام 2001، ليواصل مشواره الغنائي وحيدا. وحقق باتلر نجاحات كبيرة، مسارح روسية وأميركية وأوروبية، وفي 2003، مثّل إسرائيل التي لا تعترف بمواطنته، في مسابقة الغناء «يورْمالا» في روسيا، وفاز بلقب «محبوب الجمهور»، وتلقى عرضا بالإقامة في روسيا ليمارس نشاطه هناك، إلا أنه رفض وقفل عائدا إلى إسرائيل التي رغم رفضها له، يعتبرها «بيته الحقيقي».

وتزوّج باتلر من إسرائيلية أنجبت منه طفلة، ولم يشفع له هذا بأن تعترف المؤسسة الدينية بيهوديته، ووافقت أخيرا على إخضاعه لما يعرف بإجراءات اعتناق الديانة اليهودية، وهو ما يفعله الآن، تمهيدا للاعتراف به كيهودي.

وبهذا كان حظ باتلر افضل من أبناء طائفته، الذين يترأسهم الآن بن عامي بن إسرائيل، وهو شخص ديناميكي ولديه كاريزما طاغية، وآراؤه مطاعة بالنسبة لباقي أبناء الطائفة، وكان عاملا في صناعة الصلب في مدينة شيكاغو الأميركية قبل قدومه إلى إسرائيل عام 1969، مع الموجة الأولى من أبناء الطائفة الذين هاجروا إلى إسرائيل وفقا لتأشيرات دخول سياحية، ولكنهم استوطنوا في ديمونا، في منازل مؤقتة متواضعة، رافضين المغادرة. واسم زعيم الطائفة يعني «ابن شعبي، بن إسرائيل»، ومن التقاليد التي تميز الطائفة، إطلاق أسماء عبرية على أفرادها، ولا يسمح لهم باتخاذ أية أسماء أخرى.

ولا يحظى بن عامي بالجنسية الإسرائيلية مثل اكثر من 2500 من أبناء طائفته، الذين مُنحوا صفة المقيمين المؤقتين عام 2003، وفقا لتسوية مع الحكومة، بعد خوضهم لصراع مع الحكومات المتعاقبة التي تجنبت طردهم خشية إثارة الرأي العام، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية وإظهار إسرائيل كدولة تطرد من يقولون عن أنفسهم إنهم يهود، رغم مطالبات من مجموعات يهودية إسرائيلية، خصوصا من الذين يسكنون النقب، بطرد من أطلقوا عليهم «الزنوج»، ويقصدون أفراد طائفة العبرانيين السود. ونقل أبناء الطائفة معركتهم للقضاء الإسرائيلي، وحصلوا على حق العمل، ووعد بتسوية وضعهم كان يجب أن يتم قبل ست سنوات، ولكن الحكومات الإسرائيلية تنكرت لهم.

وتشجع الطائفة أبناءها على الانخراط في صفوف الجيش كجزء من سعيها للاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وتكريس هويتها اليهودية غير المعترف بها، وهو ما لم يفعله باتلر الذي قال تعليقا على مشاركته في مسابقة يوروفيزْيون «لم أحظ بالخدمة في الجيش، واعتبر مشاركتي في يوروفيزْيون فرصة لتأدية واجبي نحو دولتي التي احبّها حبًا عظيمًا».

ووجدت الطائفة في اهتمام إسرائيل الواسع بمشاركة باتلر في يوروفيزْيون، مناسبة لطرح قضاياها، وقالت يافا بات غافْرِيئِل، الناطقة بلسان الطائفة «نحن طائفة صغيرة لم يُعترف بها كجزء من إسرائيل ولم نكن مقبولين، والآن نمثّل هذه الدولة في مهرجان عالمي، وهذه دلالة على إخلاصنا وتمسكنا بإسرائيل، المكان الوحيد الذي نريد الاستقرار فيه وخدمته».

ولا يعتقد انه سيتم قريبا الاعتراف، بأفراد العبرانيين السود كإسرائيليين، رغم تزايدهم العددي بسبب معدل المواليد المرتفع، واستمرار تدفق المهاجرين من أبناء جلدتهم من أميركا، بتأشيرات سياحية، ثم ينضمون إليهم في ديمونة، ويرفضون المغادرة، مطالبين بالاعتراف بهم. ولهذا فهم يعملون جاهدين على فرض أنفسهم كطائفة يهودية ذات خصوصية في الغناء. ولم يكن استغلال مشاركة المغني باتلر في المسابقة الأوروبية استثناء، في سعي الطائفة لإظهار نفسها من خلال الغناء، ففي شهر يونيو (حزيران) 2003، وصلت نجمة أغاني البوب السمراء ويتني هيوستن مع زوجها المغني السابق بوبي براون بدعوة من الطائفة. وقالت هيوستن، بأن لديها أقرباء ينتمون لهذه الطائفة، وعندما وصلت مطار بن غوريون برفقة حاشية تضم نحو 25 من المساعدين والأصدقاء، استقبلها رئيس الطائفة بن عامي بشكل احتفالي واستغل حشود الصحافيين ليعلن «نريد تحويل إسرائيل إلى مركز سياحي لجميع أبناء الديانات المختلفة، ونأمل أن تكون هيوستون أول سفيرة لأولئك الذين سيأتون بعدها». وتوجهت هيوستن، برفقة بن عامي المنتشي نصراً، إلى ديمونة مباشرة من المطار. وفي غمرة حماسها لنمط حياة العبرانيين السود، أعلنت هيوستن أنها قررت شراء ارض لبناء مسكن عليها في المكان الذي يسكن فيه أفراد الطائفة، وقالت «نشعر بشرف كبير لوجودنا هنا. هذه تجربة روحانية بالنسبة لنا، نحن بحاجة إلى أن نكون معًا في كنف العائلة والاستراحة في ديمونة».

أما المتحدثة باسمها باتريشا هيوست فقالت «ويتني هيوستن امرأة روحانية أرادت القدوم إلى إسرائيل، للمس الأرض وأن تكون بجانب القديسين في طائفتنا في ديمونة».

واستفاد أبناء الطائفة من وجود المغنية الشهيرة التي استقبلها لاحقا ارييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بكثير من الحفاوة، وخلال وجودها بينهم في ديمونة، أعلن رئيس بلدية المدينة أن بلديته، ستبني حيا سكنيا منظما للعبرانيين السود واختار للحي اسم «أمل إسرائيل»، منهيا بذلك سكنهم لمدة 35 عاما في أكشاك الصفيح. كل هذا بسبب الغناء، الذي يأمل أفراد الطائفة المنبوذة أن يضعهم على خارطة المجتمع الإسرائيلي بقوة، ولذا ينظرون بكثير من الفخر للمغني باتلر، الذي دخل العالمية من خلال مشاركته في المحافل الغنائية الدولية وآخرها «يوروفيزْيون».

ads


شاهد ايضا ( فيديو مشابه )